"مفعول قطه"....بقلم :هيفاء الشوا

كان يوما صعبا بكل المقاييس . يوم من تلك الايام التي تمر ببطء, و تتكاثف فيها الاحداث  "الثقيله" على الروح . بل  ان  تلك الحادثه كادت ان تحدث شرخا  , و حتى أزمة عائليه  بينها و بين "حماتها ."

 الحماه  اعتبرت دخول "قطنه" الى البيت كساكن دائم, انما هو نجاح مؤزر لكنَتها  في تمرير رغبتها على زوجها ...كالعاده طبعا , و بالتالي عليها هي. و صرحت للمرة المئه, أن ابنها بات لا رأي له ولا موقف في كثير من القضايا العائليه ,ليس اخرها حتما  قضية "قطنه"!

القطة البيضاء الصغيره, خطت اولى خطواتها المرتجفه فوق سجادة الحماه الحمراء العجميه, ذات الشراشيب الحريريه المنتظمه....قلبها سقط و كاد ينخلع و هي ترقب القطه لحظة اكتشفت "لعبة الشراشيب":"....دخيلكم"صرخت بصوت مرتجف..."قيموها عن السجاده..."

الحماه, سيده بادية الجمال رغم عمرها,شديدة الإهتمام بهيئتها و خطوتها و محيطها , أكثر من اهتمامها بتأسيس علاقة عاطفية بأحفادها .  مثقفه , مواكبه لكل جديد في السياسة و العطور و  مواطن السياحه الفخمه حول العالم......لكنها....قاسيه, صامته, تلف مشاعرها
بغلاف محكم, فلا يبدو منها شيء و لا  حتى  خيال ........... 

و باتت "قطنه" ليلتها الاولى في سلتها الوثيره  بالقرب من سرير  "رنا"  الحفيده الصغرى لسيدة  البيت, و الأكثر حظوه لديها, كونها تحمل اسمها بعد ثلاثه من الأحفاد الذكور .امها اعتبرت أن غرفة رنا هي المكان الامثل...الأكثر امانا في مثل هذه الظروف...غير المستقره!!!!!

ايام قليله مرَت...و الاجواء بين الكبار غيرمرتاحه  و مشحونه ...الزوج يهرب سريعا الى عمله قبل ان يقع وسط التراشق المهذب لتسميع الكلام من قبل والدته...و الزوجة تنهي عملها قبل ان تلتقي حماتها في فسحة المطبخ, و تتعذر بارتباطات مع امها او صديقاتها و تغادر.....و تبقى الجده وحدها....و القطة ايضا....

الصغيره رنا تعود من مدرستها و تبدأ فورا رحلة مناداتها على "قطنه" :" قطنه ...حبيبتي...وينك...بس بس بس بس...."  و تبدأ جولتها الذكيه التلقائيه مع جدتها:
"تيتا شوفي كيف نايمه...متل البيبي الصغير...."
"تيتا...شوفي كيف عم بتقرب عليكي....عم تتطلع فيكي...يمكن بتحبك يا تيتا...."
وقبل مغادرتها صباحا تصرخ  و هي تقترب من باب الدار :"...تيتا من فضلك, إتأخرت على المدرسه...ممكن اتحطي لقطنه مي؟...احسن تموت من العطش...."

و في وحدتها...كانت الجده الجميله ...القاسيه تعيش انفصاما في تعبيرها...فهي في الصباح الخالي من افراد العائله, تنحني و تلامس ببطن كفها شعر القطه المفرط النعومه...تحدق و تتأمل زرقة عيناها, تحدثها على  مضض...و حتى تبتسم لها على استحياء . ثم يأتي المساء...فينقلب الحال...تعود حينه الى موقفها المعلن...و قسوتها, و تنأى بنفسها عن حياة "قطنه" و تفاصيلها...و طبعا احتياجاتها.

و في  ذات يوم عادي ...اختفت "قطنه"...كما جاءت بدون إعلان...خرجت ...و لم تعد! و بكى الاولاد, و اصيبت رنا الصغيره بغم  كبير, امتنعت عن الطعام, و الدراسه, و حتى من متابعة اصدقائها عبر الهاتف النقال.
لكن المفاجأه ..كانت حالة الحماه. الحماه القاسيه...المتماسكه...سيدة البيت و الامر ...و السجاده العجميه الحمراء ذات الشراشيب .فقد أصابتها نوبه متواصله من البكاء  المقهور, البكاء الرتيب الحزين...نشيج غريب مكتوم محروق....لا تسأل عن القطه...لا تعط تعليمات, و لا اقتراحات, لا تلوم...فقط تحزن....فقط تبكي.

ولم يطل بهم هذا الحال, فكما اختفت القطه...دخلت الى البيت بعد ايام,...عادت مغبره, متسخه نحيله , و قد لطخها طين الشوارع فتغيرت طلعتها و اختفى  بياضها.   سارت نحو وسط البيت وسط صراخ الاولاد و قفزات رنا  و فرح الكبار البادي . دخلت ترتعد من نحولها و جوعها و ترتجف من برد الشوارع  , تخطو باقدامها الصغيره الملوثه بطين الشارع ..على السجادة العجمية الحمراء ذات الشراشيب.

ووقفت سيدة البيت, تلك الوقوره الانيقه  القاسيه...      , وقفت و قد انتفخت جفونها من بكاء الايام الماضيه. وقفت  و هي تضع يدها على قلبها , ترقب القطه   بصمت فرح   ..... و قد أضاء وجهها..... !

كان ذاك اليوم مفصليا في حياة العائله....
وفي حياة الجده  بالذات . تلك الجده التي بكت يوم اختفت "قطنه"  , كل قسوة العمر و برود السنين من قلبها . فبدا و كأن شيء ما ذاب في داخلها, او بروده زجاجية  انحسرت عن روحها.....لا  يهم...و لكنها لم تعد ذاتها ...ابدأ"! 

  
  

تعليقات