البشكير . بقلم هيفاء الشوا

تتوافد النساء, من كل الأعمار, تقدمن التعازي.
وجوه تختلف قسماتها, ما بين محايد, و مشفق, معتاد, مستغرب. ثم تلك الوجوه التي يختلف التعبير عن الحزن فيها. وجه تتكاثف فيه تعابير الهم و الحزن, ووجه اّخر, تنقطع انفاسه توترا و ارتباك . تنتشر النسوة في ارجاء البيت, الخصوصية مستباحة في مثل هذه الايام, تصبح البيوت كجحور الارانب مفتوحة في كل و من كل الاتجاهات.
تسأل سميره عن الحمام . تود سلمى ان تقفز من مكانها, مكان الصدارة في الكنبة الرئيسية في صدر الصالون . هي المصابه, هي الفاقدة لأمها.هي من تحج نحوها كافة النساء : القريبات منهن و الغريبات, كي تصافحن , و تعانقن و تقبلن قبلا“ بأعداد فردية و زوجية و ما بينهما . بعضهن تقلن اشياء , و اخريات ترتبط السنتهن تلعثما.غيرهن تسهب في شرح المؤازرة و التفاعل و التفهم لمصابها . تود سلمى ان تقفز , ترشد سميرة الى الحمام , تسير قبلها بعدة خطوات , حتى تسبقها نحو خزانة البشاكير في الحمام , فتخفي ذاك البشكير البنفسجي , الذي تتوسطه بقعة بيضاء , نتيجة رشقة كلور, رشقتها احدى النساء اللواتي كن يساعدن امها في المنزل ذات يوم.
لكنها لا تستطيع المغادره ! الافواج متلاحقة متتابعه. تقف, يقبلنها فتجلس . ثم تقف فيقبلنها و تجلس, ثانية و عاشرة و عشرون مره. تجلس ترقب الممر الذي يختفي خلفه الحمام. تحرك جسمها يمنة و يسارا , و يذهب بصرها كي يجد مسربا عبر اجسام النساء المتحركات في كافة ارجاء الصالون , تتصيد عودة سميرة من هناك . و تمر لحظات تحجب فيها مجموعات المعزيات النظر, و تنسى هي . ترى سميرة فجأة و قد تمركزت في كرسي امام كنبتها, و كأنها سقطت من سقف الغرفة جلوسا فوق الكرسي . و تفحصتها....أتراها فتحت تلك الخزانه ؟ اتراها التقطت ذاك البشكير من دون ”صفطات البشاكير“ المرتبة بعناية فوق الرفوف؟ وجه سميرة لم يكشف الأجوبه , وجه محايد , عيونها ترقب الحركة السريعة عبر الصالون , تنظر في اتجاه صوت ارتفع, او كرسي تزحزح فأزعج.
و في المساء الموحش , اختفت اصوات النساء, و دبيبهن , ووتوتاتهن المتقطعة في يوم ثقيل عليهن , و عليها أكثر. و بقيت هي في وسط الكنبة الكبيره , تركل ببوز حذائها فردة حذائها الشمال التي عذبت قدمها بقسوة . تبقى في مقعدها تشاهد احداث ذاك اليوم في شاشة افكارها. و تتذكر امها في كل مرة كانت تطوي البشاكير , وهي تقول:“إرمو هالبشكير, صار خربان...عليه بقعة كلور....“. وفي كل مرة يعود البشكير الى الخزانة مطويا مرتبا مهفهفا مصرا“...كحذاء الطنبوري في قصص الأمس . و كأن قدره كان الا يفارق مجموعته, على الاقل ليس في ذلك الحين بعد . و حين كان يسهر الاصدقاء او يحضر الضيوف الى الغداء, تسألهم امها نفس السؤال:“خزانة البشاكير مرتبه؟قمتو البشكير البنفسجي الخربان؟“, فتركض احداهن, تسحب البشكير بصمت من بين امثاله, و ترميه في احدى الغرف, خشية ان يستخدمه ضيف من الضيوف. ثم يعود بعد مغادرة الضيوف الى مكانه, الى قدره, معززا مكرما مهفهفا.
في اليوم الأخير من العزاء, يتكرر المشهد, تتكرر الوجوه او الطقوس و المشاهد . تسأل النساء عن الحمام ,ترشدهن صديقاتها. تبقى سلمى في كنبتها الكبيرة, في صدر الصالون, لا تبد انفعالا.
و في المساء , تسرع كي تتفقد سلة الغسيل . تبتسم حين ترى البشكير البنفسجي . إذن لقد وجد طريقه نحو ايدي احداهن . تدخله في جوف الغسالة, حتى يغسل و ينظف و ”يتهفهف“ .....و يعود ادراجه , بإصرار مثل كل مره ......على رف من رفوف خزانة البشاكير.
هيفاء الشوا
17/8/2019
ما بين الساعة العاشرة صباحا و حتى ال 11.45

تعليقات